في مفهوم التضامن
بقلم يونس هانسن؛ راجَعَهُ لُغويًّا سومر المير محمود و براق زكاريا
آب ٢٠٢٣، برلين
«الجواب المختصر هو أنّ التضامن لا يعلُو على النقد… الولاء لمجموعة في صراعها من أجل البقاء لا يجوز أن يجُرَّ المثقّف إلى درجة تخدير الحسِّ النقدي، أو تقليص ضروراته الأساسية، التي تقتضي دومًا تجاوُز مسألة البقاء إلى قضايا التحرُّر السياسي؛ وإلى توجيه الانتقادات إلى القيادة، وإلى تقديم بدائل تُهَمَّشُ أو تُطرَحُ جانبًا في أحوال كثيرة جدًّا بدعوى أن لا علاقة لها بالمعركة الرئيسية القائمة».
إدوارد سعيد، صُور المُثقَّف، ص ٤٦ و ٥٢.
زارنا في معهدِنا في شهر شُباط الماضي وفدٌ بحثي من تونس يُمَثِّل أعضاؤُه مركزَ ميريان الألماني لِلدراسات المُتقدّمة في المنطقة المغاربية. وأثناء استضافتنا لهذا الوفد عقدنا معًا الأكاديميّة الجوّالة الجديدة بغاية تعزيز العلاقات العلمية بين معهدِنا في بيروت والمركز في تونس. أجرينا نقاشًا لمُدّة أسبوع حولَ مفهوم الـ«Solidarity» وحلّلْناهُ في إطار العلاقات بين المشرق والمغرب، ولا سيّما في سياق العالم العربي بعد انهيار أحلام الثورات الشعبية.
استطاعت هذه الأكاديمية إلهام كاتبِ هذه السطور - الذي سيكونُ أيضًا مديرَ هذا المعهد (المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت) اعتبارًا من شهر تمّوز المقبل – لا سيّما إزاء موضوع نقاشاتنا «Solidarity»، فقرَّرْتُ أنْ أَخُطَّ التأمُّلاتِ التالية المتعلِّقة بدلالات الألفاظ العربية، وكذلك بأنواعها وأصنافها التاريخية، وأنْ أَختِم بخواطرَ حول القلق الأخلاقي والمعياري.
مقاربة دلاليّة
تُقدِّمُ اللغةُ العربية العديدَ من المُرادفات لكلمةِ «Solidarity» الإنجليزية، منها، على سبيل المثال، التكافُل والتماسُك والتعاطف والتعاضُد والتراحم. وفي حين ترجعُ كلمةُ «تكافل» إلى عِلم الأحياء (البيولوجيا) وتُشير إلى التفاعُل بين كائنَين يعيشان في ارتباط مادّي وثيقٍ ومُفيدٍ للطرفين، يتعلّق معنى كلمة «التماسُك» في أغلب الأحيان بالصمود الفردي أو الجماعي تحت ظروف المحنة. أمّا «التعاطف» فهو يُفيدُ بِمَيْلٍ إلى شخصٍ محبوب أو جماعة، ويدلِّلُ على مُشاركة وجدانية، وليس عملًا جماعيًّا، ولا حتّى فرديًّا. ثمّةَ معنى قريبٌ لـِ«Solidarity» تنطوي عليه كلمة «التعاضد»، فهي تَدُلُّ على طاقةٍ خاصّةٍ يُطلِقُها التعاون الإبداعي بين جهاتٍ شتّى. أخيرًا وليس آخِرًا، يَسْتَحْضِرُ بعضُ المفكّرين المسلمين روحَ «التراحُم» بدلًا من «التضامن»، فالتراحم عملٌ خيِّرٌ يسترشِدُ بقيمةِ الرحمة من أجل مصلحة الأفراد بدلًا من العدالة الكونيّة الشكليّة.
بعيدًا عن ذلك، يبدو لي أنّ التضامنَ هو الكلمة الأنسب لترجمة «Solidarity» التي كانت موضوع نقاشنا في الأكاديمية الجوّالة. والتعريف الذي أُريدُ اقتراحَه بعد هذه التأمُّلات في الدلالات العربية هو باختصارأنّ التضامُنَ عملٌ سياسيّ، ليس نيابةً عن الآخرين فحسْب، بل بشروطِهِم. تختلف مقاربتي وتعريفي عن الفهم الكلاسيكي للتضامن الذي يَفْتَرض مسبقًا إطارَ الدولة القومية الحديثة والحضارة الغربية. لقد اعتاد علماء الاجتماع - منذ أيام إميل دوركهايم وماكس فيبر - فهمَ التضامن على أنّه الشكلُ الحديث الذي تتّخذه الروابطُ الاجتماعيةُ بعد تلاشي الصداقة والرعاية وروابط القرابة العضوية. على النقيض من هذه الوظيفة المحصورة بنطاق بناء الدولة أو القومية أو الحضارة الغربية، فإنّ فهمي للتضامن كَوْنيُّ النطاق.
يحمل تعريفٌ كهذا نتائجَ تترتَّب على تميِيزنا الدلاليّ؛ فأوّلًا، تَخلُق ممارسةُ التضامن روابطَ اجتماعيةً لم تكن موجودةً من قبل؛ ثانيًا، يتوقَّفُ التضامنُ على التوافُق بين الـمُطالِبين بالتضامن من جهة، والـمُتضامِنين من جهة أخرى؛ ثالثًا، يُعاكِس هذا التوافُق التضامني مشاعرَ العصبيّة أو الوَلاء، أو حتّى الشفقةِ أو الذنب أو العار. وبخلاف أشكال التقارُب هذه، يقوم التضامنُ على الخضوع للحكم الأخلاقي الذي يُطْلِقُه المطالبون بالتضامن؛ رابعًا، تتأسّسُ ممارسة التضامن – في شتّى الظروف - على مبدأ العدالة الكونية، بصرفِ النظر عن عدد القضايا الأخرى التي تستحقُّ الدعم في العالم المعاصر؛ وخامسًا، لا تتوقّف ممارسة التضامن على احتمال النجاح الفعليّ أو على النتائج العملية: التضامن لا يمكن قياسُه بوظائفه.
حول تعريفٍ معياريّ لممارسة التضامن
وَفق التعريف الذي قدَّمْتُه أعلاه، لا تعُود ممارسةُ التضامن بالأمر الهيِّن؛ لقد اعترض أحدُ الزملاء في الأكاديمية الجوّالة على فكرة ضرورة الخضوع للحكم الأخلاقي، مَخَافةَ أنْ يؤدّيَ ذلك إلى التخلّي عن الذات. كذلك أعرب أحدُ زملائنا الألمان عن توجُّسه من التضامن السياسي الذي اقترَحْتُه، بناءً على خِبرته في التضامن الرسمي الذي مارسَتْه دولتُه، الجمهورية الديمقراطية الألمانية (ألمانيا الشرقيّة)، حينما فرضت الحكومةُ على مُواطِنيها التضامنَ مع البلدان الاشتراكية الشقيقة… وأومأَ زملاؤنا التونسيُّون مُوافقين.
هذان الاعتراضانِ مهمّانِ، على الرَّغْمِ من أنّه لا مِراءَ في أنّه ليس لكلِّ شخصٍ ملكَةُ ممارسة التضامن، كما أنّه ليس من شروط التعريف التحليليّ أنْ يُعجِبَ الجميعَ. وعلاوةً على ذلك، لا يمكن وصفُ كلِّ فعلٍ سياسيٍّ جماعيّ بالتضامن. وتبعًا لِما اقترحنا آنفًا، فإنّ هنالك فِعلًا جماعيًّا خارجَ مجالِ التضامن الأخلاقي، نابعًا من حساباتٍ سياسيّة أو من رابطة أُخُوّة أو من ولاءٍ لعصبيّة أو من خلفيّاتٍ تتعلّق بالهويّة بشكلٍ عام. يبدو لي أنّ كثيرًا من الناس - وأيضًا بعض الباحثين - يخلِطون بين مفهوم التضامن من جهة، ودولةِ الرفاهية أو العمل الخيري الجماعي من جهة أُخرى. وهنا تجدُر الإشارةُ إلى أنّه ليس كلُّ ما يعتبرهُ الناسُ، أو حكومةٌ ما، تضامنًا هو بالضرورة تضامنٌ حقيقيٌّ تَبعًا لتعريفي المعياريّ.
لقد اتّضح لي في جلسات الأكاديمية الجوّالة في المعهد أنّ هذا التمييز يَعُودُ جزئيًّا إلى حُقول العلوم الإنسانية المتنافسة ومنهجيات البحث المختلفة. فالمنهَجُ الإثنوغرافي، مثلًا، يمنح امتيازًا لأصوات العالم المعيش التي يدرسها ويصغي لادِّعاءاتِ عقلانيّتِها. على عكس ذلك، تهتمُّ الفلسفةُ الأخلاقية بوضع قواعدَ ومَعاييرَ كونيّةٍ لتمييز ما يُزعم أنّه حقيقيٌّ عمّا هو حقيقيّ منطقيًّا أو موضوعيًّا.
مُعْضِلة الخُضُوع البُنْيَوي
ليس مستحيلًا أنْ تتَّبِعَ حكومةٌ ما سياساتٍ تخضع لحُكم الآخرين الأخلاقي، أي أن تختار لنفسها ممارسةً سياسيةً بشروط آخرين، التزامًاً بِمبدأ العدالة الكونية. ليس هذا مستحيلًا، لكنّهُ نادرُ الحًدوث. بَيْدَ أنّ الأمر يتعلّق بِمُعضِلة الخضوع البنيويالتي يمكننا تلخيصُها في السؤال الأساسي التالي: إذا كان التضامنُ ممارسةً معيّنة من أجل مبدأ العدالة الكونيّة بشروط آخرين، فَمَن الذي يُحَدِّد الدافِعَ الأخلاقي للتضامن خارجَ نِطاق ضميرنا وخلفَ ادِّعاءات طالبِي التضامن؟
سأتقصّى هذا السؤال استنادًا إلى مِثالَينِ مُترابطينِ، أوَّلُهما قرارُ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عامَ ٢٠١٥ فتحَ الحدودِ الألمانية أمام لاجئين غالبيتُهم من السوريّين، وثانيهِما هو تصريحُها عامَ ٢٠٠٨ الذي كرَّرتْ فيه التزامَ الدولة الألمانية غير المشروط بأمن إسرائيل، واعتبرتْ أنّ شرعية وجود الدولة الألمانية مرتبطةٌ بالحفاظ على أمن إسرائيل. كِلا المثالَينِ يتعلّق بالتضامن، مع أنّ الإعلام الألماني لم ينسبْ صفةَ التضامنِ سِوى إلى خطاب المستشارة في الكنيست الإسرائيلي. إنّ الموقفين يبدُوان متشابِهَين من جهة الخضوع لشروط المُطالبِين بالتضامن. غير أنّ ثَمّةَ اختلافاتٍ بين هاتَين الحالتين بحيثُ يمكن القول إنّ التضامن لا ينطبقُ إلّا على الحالة الأُولى فقط، حَسبَ تعريفي المعياري.
شكَّل دخولُ مئات الآلاف من اللاجئين عام ٢٠١٥ تحدّياتٍ هائلةً لم يكُنْ على ألمانيا تَحمُّل مسؤوليتِها بالضرورة. ومع ذلك، فإنّ قرارالمستشارة ميركل فَتْحَ الحدود الألمانية عاكَسَ فعليًّا الإجماعَ الألماني حولَ أسبقيّة الأمن القومي والسيادة الوطنية في هذا البلد. لقد علِمتْ ميركل بالضغوط الشديدة التي سيتسبّبُ بها اللاجئون الجُدد على نظام الرفاهية الاجتماعي، كما أنّها أصرَّتْ على قرارها، رغمَ كلِّ التحذيرات من تسلُّل إرهابيّين إسلاميّين بين طوابير اللاجئين، وأكّدت لمواطنيها الألمان أيضًا أنّ بلدَهم قادِرٌ على استقبالِ اللاجئين وأنّ الألمان، في هذا الوضع الاستثنائي، يَحملون مسؤوليّةً تاريخيّة أمامَ العالم تُلْزِمُهم بفتح أبوابِهِم ومساعدة اللاجئين السوريّين.
دافعتْ المستشارة ميركل عن موقفها عبرَ مُناشدة حِسّ مُواطنيها بالعدالة الكونيّة من جهة، ومن خلال ثقتِها بقوّة الاقتصاد الألماني من جهة أخرى، فشكّلَ موقفُها، وإلى جانبِه تأيِيدُ كثيرين لها، فِعْلَ تضامنٍ حقيقيٍّ وَفقًا للتعريف الأخلاقي الذي أسلفتُه. وذلك بمعنى مزدوج، إذْ لم تخضَعْ ميركل وأنصارُها الألمان لِما يطلُبه الآخَرُون من دعمٍ ومساعدة بِغَضِّ النظر عن العواقب فَحَسْب، بَلْ إنّ هذه الممارسة التضامنية وسّعت الضميرَ الألمانيّ الجَمْعِيّ ليشملَ مجموعةً بشرية كانت مُستبعَدة من التعاطف والتراحم وخارجَ مشاعِر العصبيّة أو الشفقة أو الذنب في ألمانيا.
أمّا فيما يتعلّق بالمثال الثاني، أيْ تصريح ميركل أمامَ الكنيست الإسرائيلي عامَ ٢٠٠٨، فإنّ ثمّة فرقًا كبيرًا يُميِّزُه عن ممارسة التضامُن مع السوريّين، وعلى صُعُدٍ شتّى، منها تجاهُل العدالة الكونية بالنظر إلى الجرائم الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيّين وانتهاكات القانون الدولي التي يتغاضَى عنها هذا النوعُ المزعُوم من التضامن؛ ومنها أيضًا المصلحةُ الذاتية لدولة ألمانيا في التكفير عن ذُنوبها التاريخية؛ بالإضافة إلى ذلك، يُقدِّمُ هذا التصريحُ مَزايا استراتيجيّةً للسياسة الخارجية والتجارة الدولية، بينما يُخْنَق انتقادُ إسرائيل في ألمانيا، حتّى عندما يمارسهُ يهودٌ مُتضامنون مع الفلسطينيّين.
يبدو لي أنّ نوايا ميركل الحَسَنة نحو إسرائيل تُمثِّلَ ميثاقَ دفاعٍ دبلوماسيًّا أو ائتلافًا سياسيًّا معيّنًا أو نوعًا من التآخي بين الدولتين. وهذا يعني أنّ ميركل، حتى لو خضعَتْ لحُكم آخرين في تصريحها هذا، فهي لا تُمارِسُ التضامنَ كما عرَّفتُه أعلاه. أخيرًا، ما الفرقُ بين الحالتين؟ دعُونا نعود إلى السؤال السابق: مَن يُحدّد الدافِعَ الأخلاقي للتضامن خارجَ نِطاق ضميرنا وخلْف ادِّعاءات طالِبي التضامن؟
خاتمة: التضامن والعدالة الكونية
حاولتُ في هذا المقالة تقديمَ حُجّةٍ أخلاقية للتضامن مبنيّةٍ على شروط أُولئك الذين دَعَوا إليه. وفي خطوةٍ ثانية، جادَلْتُ بأنّ هذا لا يُشكِّل تخلّيًا عن الذات، بل يرتقي بضميرِ الذات فوق تحيُّزاتها الاجتماعية والثقافية غير الواعية. وهنا يَكمُنُ جوهرُ الحجّة الأخلاقية للتضامن، أي أنْ يعتمدَ واجبُ الاستجابة لدعوة التضامن على ما إذا كانتْ هذه الدعوةُ قائمةً على مبادئ الكونية وليس على حالة طوارئ أو دفاعٍ وقائي عن النفس أو الأمن القومي الدائم. ما أنْ نُفَرِّقَ بين الحُجج الموضوعية القائمة على قوانين العدالة الكونية والمُساواة العالمية من جهة، وبين الحُجج الذاتية والتآخي القومي والعِرقي القائمة على الاستثناءات والمزايا الخاصّة من جهة أخرى، حتّى نكون قد حقّقنا المبادئ الأخلاقية للتضامن.